الثلاثاء، 23 يونيو 2015

مــــــــــــــــــاذا بعدَ المُناظـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــرة


السوادُ الأعظمُ من الناسِ كانوا يتشوّقونَ لمعرفة ما الذي سيجري في المناظرة، هل سيُخرِس إسلام الأزهري أم سينتصرُ الجفري  على البحيري، ولكنني كُنت أفكر بما بعد المناظرة، ما الذي سيحدثُ بعدها، وهل مشروع "التنوير" الذي جدّدهُ البحيري سيُؤتي أُكُله أم سيذهب في غياهب النسيان كغيره من المشاريع التنويرية. ولقولِ الحقيقةِ ومما استنتجَ لي من خلال المناظرة والتي كان جُلُّ اهتمامي فيها هو البحيري والبحيري وحده، الذي كنت أسمع عنه وعن  مشروعه واقرأ عن افكاره فإذا بي أرى أننا أمام "مشروعٍ هَدْمي" لا إعماري ولا تنويري، أمام مشروعٍ يريد هدم تراثٍ – وهو للأسف الشديد جاهلٌ أشدَّ الجهل في معنى التراث – قوامه 1400 سنة لمجرد أن جزئيّةً بسيطةً منهُ لم تعجبه، "إذ التراث معنىً واسع يشتمل على كل ما تركه السابقون. المتنبي وأبو نواس تراث، ابن الهيثم وابن سينا تراث، الغزالي وابن رشدٍ تراث، الصوفيّة تراث، الائمة الاربعة وائمة أهل البيت ومن تبعهم تراث، بغدادَ والأندلسَ ودمشقَ تراث، زرياب والموسيقى المولوية تراث. وزعمُ أحدهم أنه هَدَمَ التراث أو سيهدمه ليس أكثرَ من قول جاهل لا يفقه شيئاً." كما قال يوسف زيدان. كل هؤلاء يريد إسلام وغيره من المسمون "متنورين" هدمهم وإعادة بناء التراث حسب العصر الحديث وحسب ما تقتضيه –في نظرهم -روح العصر، يريدون أن يصبحوا داعش بنسختها المتعلمنه ويصيبوا التراث في مقتل. بل ذهب به غروره وثارة ثائرته حينما قال له الأزهري أنكَ لم تأتي بجديدٍ وكلُّ أفكاركَ مسبوقٌ إليها فقال: " أنا أعرف أنه لم يسبق لأحدٍ من قبلي أن جاء بمشروعٍ تنويري!!!!!" فالأمرُ ليسَ مكابرةً بل وأيضاً استحمار عنجهي، فقد ضربَ بجمال الدين الأفغاني، وشيخ المجددين الإمام محمد عبده والمفكر الراحل نصر حامد أبو زيد، بل والداعية والمفكر الاسلامي المغضوب عليه عدنان إبراهيم ومخترع العمق في العالم العربي في الفترة الحديثة الأستاذ الدكتور يوسف زيدان – الذي سبّه إسلام قبل فترة ووصفه بأنه "راجل بتاع ستات وبيعيش حياته على الزنا"... فنِعَم التنوير – رماهم وغيرهم عرض الحائط وقال مقولة أبي العلاء المعري والتي لا تناسبه ولا يستحق أن تقال عليه "وإني وإن كـنتُ الأخـيرَ زمانهُ *** لآت بما لم تـَسْـتطعه الأوائـلُ" بل وحتى مقارنة من سبق ذكرهم (إسلام وجماعته) – من الناحية الفكرية فهذا موضوعنا – تعدٍّ عليهم فهُم (أي الأولون بالإضافة لعدنان وزيدان) طبّقوا حكمة مولانا جلال الدين الرومي "بينما قدمي ثابتة على أرضِ الشريعة دارتِ الأخرى على أثنتين وسبعين ملّة!". كان أكثر اهتمامي – بعد المناظرة – هو متابعة أتباع إسلام واقرانه، فاستبان لي أنهم مثل استاذهم (إِذا كانَ رَبُّ البَيتِ بِالدُفِّ مولِعاً *** فَشيمَةُ أَهلِ البَيتِ كُلِهِمِ الرَقصُ) لا يُعْمِلونَ العقلَ على الخبر ويظنون أنه الفارس المغوار الذي سيميطُ اللثام عن هذه "الغمة" المسماةِ تراث، وفي الحقيقة كيفَ أرجو التنوير من رجلٍ خرج من المناظرة يقول: "فشكراً للأزهر وشكراً للحاقدين ونراكم في معارك أخرى" فنحنُ إذن أمام شخصية طفليّة (وليس هو وحده بل جميع أضرابه من المعاصرين) تَنْظُرُ إلى المناظراتِ على أنها معارك تنافسية فإما لك وإما لك. فأينَ هُمُ من قول أبن المقفّع في الخليل بن أحمدٍ الفراهيدي حين ناظره "وجدتُ  عقله أكبر من علمه" بل لا استغرب أن تنقضيَ عشرة سنواتٍ على الأكثر وسينتهي أمره، عكس العظيمان فرج فودة ونجيب محفوظ اللذان كان همّهما إبراز الحقائق وقول "الصدق" بلا لفٍّ ولا دوران، بلا سبٍَ ولا شتم. فقط "الحقيقة".

قد أتفقُ مع إسلام في جزئية واحدة وهو موضوع عدم بناء النبي بعائشة وهي بنت تسع سنواتٍ وأدلّتهُ التي ساقها جيدة نوعاً ما ولكنها ليست قويّة مثلما قدّمها عدنان إبراهيم بأسلوبٍ علمي بما لا يدع مجالاً للشك في إحدى خطبه بإمكانكم العودة إليها. ولكن أختلف مع إسلام وغيره في جزئية أبن تيمية، نعم الرجل أخطأ ولديه من الفتاوى المخزية ما يُعدُّ ويحصى، ولكن أن تنتقصَ منه وتتهكمَ عليهِ بل وتصفه بـ(عدو الله ورسوله) فهذا جرمٌ فاحش وتعدًّ صارخ، وأغتنمها فرصة للاعتذار إليه عما سمّيته به قبل فترة بـ(شيخِ التُعس والضلالة) فقد كنتُ متسرعاً في حكمي عليه ولم أفهم سيكولوجية الرجل ولا الحالة التي كان يعيش فيها، فأنا –وأقولها صراحةً -لم اقرأ كتبه وأغلب من يسبه لم يقرأ له حرفاً ولم يقرأ شيئاً في علم النفس، وكما قال الحبيب علي الجفري: "لو أننا أردنا نَقْدَ ابن تيمية بسبب فتاوى القتال فما عسانا أن نفعل مع فيلسوف الفلاسفة هيجل وموقفه من أمر توحيد ألمانيا حينما ضرب بعرض الحائط كل أقواله وأخلاقه التي ظلَّ يدعو لها وقال بضرورة إراقة الدماء من اجل تحقيق الوحدة (لليمنيين ألا يذكركم هذا بشيءٍ ما).

ثم أنا والله لم أعد أفهم لم التنوير مطلوب؟! ولم وجب على أحدنا أن يتنوّرَ وأن يخلع رداءَ الدين لأجل التنوير ؟! أهو فريضة علينا إن أردنا أن نتقدمَ ونلحق بركب أوروبا أن نقول مثلهمSecularism is the Solution  أي العلمانية هي الحل؟! ومن يقول ذلك، أقول له كذبتَ. فالإسلام الذي اعتنقه (وركّز أنا اتكلم عن إسلام الله لا إسلام رجال الدين) لم يُحيّدني ويقل لي "أتركني حتى تقرأ الإنجيل والتوراة"، " أتركني حتي تقرأ لينتشه وسارتر"، "أنفضني عنكَ حتى تقرأ لدوكينز وهوكينج وداروين"، "أنتَ مخلّدٌ في النار لمجرد أن استمعتَ لبيتهوفن وباخ"، وأخيراً القرآن لم يقل لي ولم ينهاني عن الاعتراف بنظرية التطور بالانتخاب الطبيعي ولم يجعل من يؤمن بها أو حتى يعتقدها ملحدون. فلا تحمّلوا القرآن والاسلام فوق طاقته ولا يفصّلنَّ المتنورونَ الإسلام  حسبَ مقاسهم كما تفعل داعش الآن، بل نريد تجديداً في المضمون مع الالتزام بالأُسس الثابتةِ لنا وأن نقرأ التاريخ الإسلامي والعالمي ونتعلم مما فيه فنحنُ أمة مجملها لا يقرأ التاريخ ومهما تشدّقَ أغلب المثقفون بعلمهم فهُم عند علم التاريخ هباءً منثوراً، ولعل ذلك يرجع إلى ما قاله نعوم تشومسكي – المصنف عالمياً كثامن أكثر مرجعية في التاريخ يقتبس من كلامها بعد الإنجيل وشكسبير – قال: "هناك سببٌ وجيهٌ أن لا أحدَ يدرسُ التاريخ، وهو لأنه يعلّمك أكثرَ مما ينبغي."

وأخيراً من يقرأ كلامي هذا لأول مرة لن يعرف شيئاً وسيرميني بالتُهمِ الباطلات، أما من يعرفني (وكلامي هذا من أوله لآخره لهم أو له وحده) فسيجدُ كلامي نوعاً ما صادماً له، مغايراً عما أقول به دائماً، وربما هو بالنسبة لي بدايةٌ من حيث توقفتُ سابقاً فلهذا لن أعودَ لأسلوبي الانتقادي المسبوقِ حتى أستزيدَ علماً وعقلاً وأقرأ في كل شيء. وقبل أن أختم وقبل أن يأتي متفلسفٌ ويقول: "جمال قَلَبَ على التنوير والتجديد وعادَ للجمود" أقول له: "أنا ما زلت ذلك الشخص الذي يقول بالتنوير والتجديد، ذلك الشخص الذي يؤمن بالله وبالعلم ولكنّي متمسكٌ بثوابتنا وبتراثنا (صالحه مع المحاولة لتنقيح طالحه) وبتاريخنا (أسوده وأبيضه) فهو أولاً وأخِراً بصمتُنا في هذه الأرض وطابع الختم الذي سيستشهدُ به أبناؤنا على حضارتهم من بعد، ومن يتخلى عنهم وينبذهم فقد أرتضى لنفسه أن يكون كالحيوان (مع كامل احترامي للحيوان) بل ربما أدنى منه.







April.21st.2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق